فصل: فصل في الوقف والابتداء في آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نعم، ومن ورائه أيضًا ما هو ألطف مأخذًا؛ وهو أن قوله سبحانه: {تلقف} جملة، ومشفوعة أيضًا بالمفعول الموصول الذي هو: {مَا يَأْفِكُونَ} وأصل تصور الجمل في هذا المعنى: أن تكون منفصلة قائمة برءوسها، وقد قرأها هاهنا كيف تصوِّرت شديدة الحاجة إلى المبتدأ قبلها؟ فإذا جاز هذا الخلط له، ووكادة الصلة بينه وبين ما قبله، فما ظنك بخبر المبتدأ إذا كان مفردًا؟ ألا تعلم أنه به أشد اتصالًا، وإليه أقوى تساندًا وانحيازًا؟ فاضم ذلك إلى ما قبله.
ونَحْو مما نحن على سمته، وبسبيل الغرض فيه- حكاية الفراء عن بعضهم، وجرى ذكر رجل فقيل: ها هو ذا، فقال مجيبًا: نَعَم الْهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد. نعم، وفي صدر هذه الجملة حروف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيتين المعتقبتين مع حَجْزِه بينهما وإعراضه على كل واحد منهما.
ومن ذلك: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قرأها الفضل الرقاشي: {وَأَيَّاكَ} بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بسر صناعة الإعراب: ما تحتمله إيّا من الْمُثُل: هل هي فِعَّل، أو فِعْيَل، أو فِعْوَل، أو إِفْعَل، أو فِعْلَل؟ أَمِنْ: آءَة، أم من أَيَة، أم من أَوَيْتُ، أم من وَأَيْتُ، أم من قوله:
فأَوِّ لذكراها إذا ما ذكرتُها

فأما فتح الهمزة فلغة فيها: إِياك وأَياك وهِيَّاك وهَيَّاك، والهاء بدل من الهمزة، كقولهم: في أرَقت: هَرقت، وأردت: هَردت، وأرحت الدابة: هرحت، وأَنرت الثوب: هنرت، قال:
فهِياك والأمرَ الذي إن توسَّعَتْ ** موارده ضاقت عليك مصادره

وقرأ عمرو بن فايد: {إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ} بتخفيف الياء فيهما جميعًا، فوزن إيا على هذا فِعَل كرِضًا وحِجًا وحِمًى، ونظيره: أيَا الشمس، قال طرَفة:
سقته إياةُ الشمس إلا لِثَاتِه ** أُسِفَّ ولم تكدِمْ عليه بإثمِدِ

ويقال فيه: أَيَاءُ الشمس بالفتح والمد، قال ذو الرمة:
تَنازَعها لونان ورد وحُوُّة ** ترى لأَيَاءِ الشمس فيه تحدُّرا

وإِيًا فِعَل، وأَيَاء فَعَال، وكلاهما من لفظ الآية ومعناها، وهي: العلامة، وذلك أن ضوء الشمس إذا ظهر عُلم أن جرمها على وجه الأرض..
وحدثنا أبو بكر محمد بن علي قال: كان أبو إسحاق يقول في قول الله سبحانه: {إياك نعبد} أي: حقيقتك نعبد، وكان يشتقه من الآية وهي العلامة، وهذا يجيء ويسوغ على رأي أبي إسحاق؛ لأنه كان يعتقد في: {إيَّاك} أنه اسم خُص به المضمر، فأما على قول الكافة فاشتقاقه فاسد؛ لأن: {إيَّاك} اسم مضمر، والأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها، وينبغي أن يكون عمرو بن فايد إنما قرأ: {إِيَاكَ} بالتخفيف؛ لأنه كره اجتماع التضعيف مع ثقل الياءين والهمزة والكسرة، ولا ينبغي أن يحمل: {إيَاك} بالتخفيف على أنها لغة، وذلك أنا لم نرَ لذلك أثرًا في اللغة ولا رسمًا ولا مرَّ بنا في نثر ولا نظم. نعم، ومن لم يُخْلِد مع ثقته إلى نظر يُعْصم به ويتساند إليه بأمانته، أُتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها، وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته.
وإذا جاز أن تخفف الحروف الثقال مع كونها صحاحًا وخفافًا؛ فتخفيف الضعيف الثقيل أَحْرَى وأَوْلَى، فمن ذلك قولهم في رُبَّ رَجُل: رُبَ رَجل، وفي أرَّ: أرْ، وفي أيٍّ: أيْ، أنشدنا أبو علي للفرزدق:
تنظرتُ نصرًا والسماكين أَيْهُمَا ** عَلَيَّ من الغيثِ استهَلَّت مواطِرُه

ويبدلون أيضًا ليختلف الحرفان فيخفا، وذلك قوله:
يا ليتما أُمُّنَا شالت نعامَتُها ** أَيْمَا إلى جنة أَيْمَا إلى نار

وقالوا في اجلوَّاذ: اجليواذ، ووفي دِوَّان: ديوان، والشيء من هذا ونحوه أوسع؛ لكن كل واحد من هذه الحروف وغيرها قد سمع وشاع، فأما {إِيَاك} بالتخفيف فلم يسمع إلا من هذه الجهة، وينبغي للقرآن أن يُختار له، ولا يختار عليه.
ومن ذلك قراءة الحسن رضي الله عنه: {اهدنا صراطًا مستقيمًا}.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد- والله أعلم- التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له؛ أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة في قول من قرأ: {الصراط المستقيم} أي: الصراط الذي شاعت استقامته، وتُعولمت في ذلك حاله وطريقته، فإن قليل هذا منك لنا زاك عندنا وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد في حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى؛ وذلك أن تقديره: أَدِمْ هدايتك لنا؛ فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم؛ فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لتَلْقَينَّ منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الفضل؛ فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد؛ كقول الأخطل:
بِنَزوة لص بعدما مر مصعب ** بأَشعث لا يُفْلَى ولا هو يَقمَل

ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة:
جازت القومَ إلى أرحُلنا ** آخر الليل بيعفور خَدِر

وهي نفسها عنده اليعفور.
أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان أَمسِ دماءَنا ** وفي الله إن لم يحكموا حَكَم عدل

وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأَخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير، فإذا جاز أن يَرضى الإنسان من مخلوق مثله بما رضي به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله، أنشده ابن الأعرابي:
وإني لأَرضى منك يا ليلُ بالذي ** لو أبصره الواشي لقرَّت بلا بِلُهْ

بلا وبأن لا أستطيع وبالْمُنى ** وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله

وبالنظرة العَجْلى وبالحول تنقضي ** أواخره لا نلتقي وأوائله

وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المولدين:
عدينا واكذبينا وامطلينا ** فقد أومنت من سوء العقاب

فلسنا من وعيدك في ارتياب ** ولا من صدق وعدك في اقتراب

ولكنا لشؤم الْجَدِّ منا نَفِر ** من العذاب إلى العذاب

وعليه قول الآخر:
عَلِّليني بموعد ** وامطلي ما حييت به

ودعيني أعيش منـ ** ـك بنجوى تطلُّبه

فعسى يعثر الزما ** ن بجنبي فينتبه

ونظائره كثيرة، قديمة ومولَّدة- كان العبد البر والزاهد المجتهد أحرى أن يسأل خالقه- جل وعز- مقتصدًا في سؤاله، وضامنًا من نفسه السمع والطاعة على ذلك من يأمره.
ويؤكد عندك مذهب من أنشدته آنفًا، ما حدثنا به أبو علي قال: لما قال كُثير:
ولست بِراض من خليلي بنائل ** قليل ولا أرضى له بقليل

قال له ابن أبي عتيق: هذا كلام مُكافئ، هلا قلت كما قال ابن الرقيات:
رُقَيَّ بِعَمْرِكُمْ لا تهجرينا ** ومنِّينا المنى ثم امطلينا

وأنشدني بعض أصحابنا:
وعلليني بوعد منك آمله إني ** أُسَرُّ وإن أخلفت أن تعدي

وعليه قوله الله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونَظَرِنَا لهم صراطًا مستقيمًا.
وقال كثير:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم

وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم لا فرق بينهما؛ وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قوله:
وأَعلم إن تسليمًا وتركًا ** لَلَا متشابهان ولا سواء

فهذا في المعنى كقوله: إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء.
ومن ذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
ذكر أبو بكر أحمد بن موسى أن فيها سبع قراءات: {علهُمُو} و: {عليهُمُ} بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و: {عليهُمْ} بسكون الميم مع ضمة الهاء، و: {عليهِمي} و: {عليهِمْ} بكسر الهاء وسكون الميم، و: {عليهِمُو} بكسر الهاء وواو بعد الميم، و: {عليهِمُ} مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير واو.
وزاد أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش على ما قال أبو بكر ثلاثة أوجه، فصار الجميع عشرة أوجه؛ والثلاثة: {عليهُمِي} بضم الهاء وميم مكسورة بعدها ياء، و: {عليهُمِ} بضمة الهاء وكسرة الميم من غير إشباع إلى الياء، و: {عليهِمِ} بكسرة الهاء وكسرة الميم أيضًا من غير بلوغ ياء، فتلك عشرة أوجه: خمسة مع ضم الهاء، وخمسة مع كسرها.
قرأ: {عليهُمُو} ابن أبي إسحاق ومسلم بن جندب والأعرج وعيسى الثقفي وعبد الله بن يزيد.
وقرأ: {عليهِمِي} الحسن وعمرو بن فايد، ورُوي عن الأعرج: {عليهِمُ} مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير بلوغ واو.
وقرأ: {عليهُمُ} مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، رويت عن الأعرج أيضًا.
قال أبو الفتح: أما: {عليهُمُو} فهي الأصل؛ لأنها رَسِيلة عليهُما في التثنية؛ أعني: ثبات الواو كثبات الألف، وينبغي أن تعلم أن أصل هذا الاسم المضمر الهاء، ثم زيدت عليها الميم؛ علامة لتجاوز الواحد من غير اختصاص بالجمع، ألا ترى الميم موجودة في التثنية: {عليهُما}؟ وأما الواو فلإخلاص الجمعية.
وأما: {عليهِمِي} فطريقه: أنه كسرت الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وضعف الهاء، فأشبهت لذلك الألف، لاسيما وهي تجاورها في المخرج، لا بل أبو الحسن يَدَّعي أن مخرج الألف هو مخرج الهاء ألبتة. فكما أن الياء والساكنة إذا وقعت قبل الألف قلبتها ياء، نحو قولك في تحقير كتاب: كُتيِّب، كذلك كسرت الهاء، فكان انكسار الهاء للياء قبلها تغييرًا لحقها لهما، كما أن انقلاب الألف ياء لمكانها تغيير لحقها من أجلها، فصار اللفظ بها من بعد: {عليهِمو} فكرهوا الخروج من كسر الهاء إلى ضم الميم الواو من بعدها، فكسروا الميم لذلك؛ فصارت: {عليهِمِوْ} فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ فصارت: {عليهِمِي}.
ومَن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فقال: {عليهِمُ} فإنه لما انتهت به الصنعة إلى كسر الهاء احتمل الضمة بعد الكسرة؛ لأنها ليست بلازمة، إذ كانت ألف التثنية تفتحها؛ لكنه حذف الواو تفاديًا من ثقلها مع ثقل الضمة التي تجَشَّمها.
ومَن قرأ: {عليهُمُ} بضم الهاء والميم، فإنه حذف الواو استخفافًا، واحتمل الضمة قبلها دليلًا عليها.
لكن من قال: {عليهُمِي} بهاء مضمومة وياء بعد الميم ففيه نظر؛ وذلك أنه كُرِه ضمة الهاء وضمة الميم ووقوع الواو من بعد ذلك كما كُرِه في الاسم المظهر وقوع الواو طرفًا بعد ضمة، وذلك نحو قولهم في دَلْو وحَقْو: أَدْل وأَحْق، وأصلها أَفْعُل أَدْلُو وأَحْقُو، ككلب وأَكْلُبٍ، فأبدلوا من الضمة كسرة تطرقًا إلى قلب الواو، فصارت في التقدير: أَدْلِو وأَحْقِو، فقلبت الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو وقوع الكسرة قبلها، فصارت أَدْلِي وأَحْقِي، وكذلك أبدلت ضمة الميم من: {عليهُمُو} كسرة فصارت: {عليهُمِوْ} فأبدلت الواو ياء للكسرة قبلها؛ فصارت: {عليهُمِي}.
وأما: {عَلَيْهُمِ} بكسرة الميم من غير ياء، فإنه لما كانت الصنعة فيه إنما طريقها الاستخفاف، اكتفي بالكسرة من الياء.
وكذلك مَن قال: {عَلَيْهِمُ} بكسر الهاء مع ضم الميم اكتفي بالضمة من الواو، وقد ذكرناه.
ومَن قال: {عَلَيْهِمِ} بكسر الهاء والميم من غير ياء، فإنه اكتفى بالكسرة أيضًا من الياء استخفافًا، فأما قول الشاعر ورويناه عن قطرب:
فهمو بطانتهم وهم وزراؤهم ** وهُمِ القضاةُ ومنهم الحكام

وروينا عنه أيضًا:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ** همِ الناسَ لما أَخصبوا وتموَّلوا

فقوله: وهمِ القضاة، ومنهمِ الحكام، فيتحمل كسر الميم وجهين:
أحدهما: أن يكون حرَّكه لالتقاء الساكنين.
والآخر: أن يكون على لغة مَن قال: {عليهُمِي} فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ، وهو ينويها في الوقف.
ووجه ثالث: أن يكون على لغة مَن قال: {عليهُمِ} بكسر الميم من غير ياء.
وقوله: {همِ الناس} يحتمل أيضًا هذه الأوجه الثلاثة.
وروينا عن قطرب أيضًا: عافكمِ الله، ففيه أيضًا ما فيما قبله، واللغات في هذا ونحوه كثيرة.
ومن ذلك قراءة أيوب السختياني: {وَلا الضَّأَلِّينَ} بالهمز.